وأنت قادم من "صلاح سالم" في اتجاهك إلى هناك. ستترك الكوبري الصغير الذي ينقلك إلى أول حي المعادي ولن تصعد عليه ثم تنحرف يميناً. لتجد الطريق أخذ في الهبوط بشكل تدريجي مع التفافة تبدو مدروسة تخفي عنك ما ستراه الآن من جمال. حتى أنك عندما تقف في المنتصف على مشارف ميدان "جامع عمرو" بحي "مصر القديمة" ستسعد ناظريك بالمشهد.. إلى يسارك جامع عمرو بن العاص شامخاً يحوي فخامة لافتة رغم المعمار البسيط. وعلى اليمين أبهة واضحة في مبنى كنيسة "مار جرجس" وإلى جوارها "الكنيسة المعلقة". ستعرف بعد قليل أن المعبد اليهودي "بن عزرا" يسكن بالقرب من هنا. الأمر إذن لم يعد في حاجة إلى توضيح أكثر.. مرحباً بك على أرض مصر.. مرحباً بك في مجمع الأديان "المصري"!
كنا في ذلك الوقت الرمضاني الشفاف مابين العصر والمغرب. حينها تهدأ الشمس وتخفت حدتها. وتبدأ العصافير في الاستعداد لرحلة العودة. ويظهر بائعو الطرشي والعرقسوس على النواصي. ويبدأ أهل الخير في نصب "موائد الرحمن". هذا وقت مثالي جداً لزيارة مكان مثل "مجمع الأديان" هذا. حيث يتضافر ذلك الجو مع الروائح المنبعثة من الأماكن الروحانية هذه جنباً إلى جنب روائح الطعام "الحلال" الخارجة من البيوت التي بدا وأنها أخذت تسامحها وهدوءها من المكان ذاته.
كنيسة مارجرجس
الخارج من محطة مترو "مار جرجس" سيطالعه على الفور واجهة كنيسة "مارجرجس" الفخيمة. هي كما تراها في الصورة ذات القبة الضخمة على الطراز الروماني ويعود تاريخ بنائها إلى عام 684 ميلادية لكنها تعرضت للحريق أكثر من مرة، وتم بناؤها بعد ذلك لتبقى على صورتها هذه.
قبل التوجه إلى الكنيسة المعلقة المجاورة إحدى الكنائس النادرة التي بلا قباب وسميت بهذا الاسم؛ لأنه تم بناؤها على البرج الجنوبي لحصن بابليون الذي سنحكي حدوتته بعد قليل، وجدنا ذلك السلم الذي يقود إلى الأسفل. ثم ذلك الباب الخشبي الضخم المفتوح على آخره يدعوك إلى الدخول.. فتهبط السلالم القليلة، ثم تدخل.
حارة دير مار جرجس
أنت الآن في حارة دير مارجرجس. ممر ضيق تعلوه على الجانبين مبان ومنازل صغيرة. في الممشى تشعر بأنك انتقلت إلى زمن ماضٍ. الآن في عصرنا الحالي الحارات صارت ضيقة وعشوائية وخانقة. فلماذا تبدو هذه الحارة رحبة ذات رائحة أصيلة رغم أن الحجارة تحيط بها؟ ستلمح على يسارك ديراً للراهبات، ثم في نهاية الحارة كنيسة السيدة العذراء بقصرية الريحانة.. وسترى الناس دخولاً وخروجاً منها دون سؤال عن الدين أو العنوان.
على الحائط ثمة صور معلقة بالأبيض والأسود تتكامل مع الجو العام للمكان. سترى النيل وهو يجري إلى جوار الأهرامات "زمان"، ومنطاداً ضخماً يطير أعلى القاهرة الهادئة "زمان". ثمة وجوه بريئة وابتسامات عذبة لمصريين "زمان" وقد بدا أنهم -رغم البساطة والفقر الواضح في الملامح- أكثر سعادة واستمتاعاً بالحياة.
| | |
صور المصريين.. زمان | | كتب عن Egypt! |
| | |
في الجانب المواجه لذات الجدار كتب كثيرة كلها تتحدث عن "Egypt" ولا يوجد فيها إلا قلة قليلة تتكلم عن "مصر". لابأس. من يبيع مثل هذه الكتب يعرف بكل تأكيد أن كثيراً من المصريين - لأسباب متعددة- لايهتمون بالقراءة عن مصر. وأن الهدف هو ذلك الزائر الأجنبي الذي لابد أنه سيشتري رزمة من الكتب بعد أن يستحوذ عليه المكان.
من أعلى ونحن لانزال في نفس الحارة تطل سيدة مسنة، ثم تنادي بائع الكتب. الصليب يبدو واضحاً في السلسلة التي ترتديها والسبحة مع البائع يكر حباتها بين يديه. تطلب منه شيئاً ما، ثم تؤكد "ابقى هاتها بعد الفطار بقى.. كل سنة وأنت طيب"... طيب فعلاً هذا المكان.
الكنيسة المعلقة
عودةٌ سريعةٌ إلى الكنيسة المعلقة؛ خشية أن تكون ذات مواعيد سياحية - نظراً لطبيعتها الخاصة- فتغلق أبوابها في توقيت محدد. ويكون هذا استنتاجاً صحيحاً بالفعل. لكنني ألحق الزيارة الأخيرة والعاملون هناك بدأوا في تنظيف المكان الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي. يقال إنه تم بناء الكنيسة فوق المكان الذي اختبأت فيه السيدة العذراء مع ابنها عيسى عليه السلام ويوسف النجار. لكنها في كل الأحوال أقيمت بشكلها الحالي -بعد تجديدات عدة في عهد عدد من الخلفاء مثل هارون الرشيد والعزيز بالله- فوق الحصن الجنوبي لحصن بابليون وهو الحصن الذي أسسه الرومان وقتما كانوا يسيطرون على مصر وحاربوا منه أعداءهم حتى حاصرهم فيه "عمرو بن العاص" -حينما جاء فاتحاً مصر عام 639م- لعدة شهور قبل أن يعلن "المقوقس" استسلامه في نهاية الأمر.
حصن بابليون
وبعيداً عن الطراز المعماري المميز للكنيسة والذي ينسب للطابع "البازيليكي" الشهير (هو نمط معماري مقتبس من البازيليكي الرومانية أي المعابد الرومانية)، سيجذب انتباهك هناك العديد من الصور ذات الأهمية الشديدة. خذ مثالاً تلك الصورة التي يظهر فيها أعضاء الحكومة المصرية سنة 1921 بزعامة "سعد زغلول". أول ما سيتبادر إلى ذهنك ما دخلها أصلاً بالكنيسة المعلقة؟ التعليق أسفلها سيقدم لك الإجابة عن قصة هذه الوزارة الفريدة التي ضمت لأول مرة ثلاثة وزراء مسيحيين رغم أن المعتاد وقتها تعيين وزير مسيحي واحد في مقابل عشرة من المسلمين -قياساً على نسبة أتباع الديانتين نسبة إلى عدد السكان وقتها- وهو ما تحفظ عليه الملك فؤاد - حاكم مصر وقتها- فماكان من "سعد زغلول" إلا أن رفض أي تغيير "طائفي" في الحكومة قائلاً بأن "الإنجليز وهم يقتلون المصريين في ثورة 1919 ثم وهم يصدرون أحكامهم بالإعدام على قيادات هذه الثورة قبل أن ينفوهم خارج البلاد لم يضعوا في أذهانهم النسبة بين المسلمين والمسيحيين فلماذا إذن نضعها نحن في أذهاننا ونحن نشكل الحكومة"؟! فهمت إذن أهمية هذه الصورة في الكنيسة المعلقة؟!
أول شخص من اليمين هو رئيس الطائفة اليهودية
لديك أيضاً هذه الصورة التي لاتقل أهمية عن سابقتها.. اللواء "محمد نجيب" وهو يتلو القسم الوطني لرئيس الجمهورية في 23 يناير 1953. إلى جواره ستلمح البكباشي "جمال عبد الناصر"، والشيخ "محمد الخضر حسين" شيخ جامع الأزهر، والبابا "يوساب" بطريرك الكرازة المرقسية، ثم.. "ناحوم" الحاخام الأكبر رئيس الطائفة اليهودية آنذاك. هذه صورة تاريخية إذن تؤكد أن الثورة -مهما اختلفت أو اتفقت مع قياداتها- لم تتعامل بطائفية مطلقاً مع أبناء الشعب، ولم تسع لطرد اليهود من البلاد كما روج لذلك البعض منهم.
لم يعد مسموحاً التأخر أكثر من هذا عن صلاة العصر. وأين يمكن أن يصلى المرء إذن صلاته وهو في مصر القديمة؟ في جامع "عمرو بن العاص" طبعاً! وأنت متجه إلى الجامع العريق جداً تستشعر رهبة من نوع خاص.. أنت ذاهب لتصلي في أول مسجد أقيم في مصر.. هل تدرك أهمية هذا؟ وأنت تخلع حذاءك وتدخل بقدمك اليمنى، تشم تلك الرائحة القادمة من أكثر من 1400 سنة. تسمع صهيل الخيول وصليل السيوف، وتلمح ظل "عمرو بن العاص" في المكان، ثم تجلس لتتأمل.
مسجد عمرو بن العاص من الداخل
في ظني. هذا هو النموذج المثالي للمساجد. رحابة واتساع لاينتهيان. ضوء هادئ للشمس يتسلسل من أعلى ليصنع دفئاً خاصاً. الناس متناثرون في المسجد. يصلون ويقرأون القرآن جماعة وفرادى ويسندون بظهورهم على الأعمدة والجدران العتيقة يتناقشون في أمور ما. صلاة جماعة دائمة ومستمرة ما أن تنتهي واحدة حتى تبدأ أخرى. شيخ وقور يتلو درساً على تلاميذ يلتفون حوله. وفي المنتصف تماماً ذلك السبيل المخصص لشرب المياه فقط والمطرز بأرابيسك عربي إسلامي تعرفه وتنبهر برؤيته دوماً. كيف إذن تكون المساجد إذا لم تكن كجامع "عمرو بن العاص"؟
سبيل المياه داخل المسجد
في أحد الأركان توجد تلك اللوحة المكتوبة بخط عربي أنيق تروي لك تاريخ المسجد وصاحبه. وكيف أنه عندما توجه إلى فتح مصر عام 639 جاءته رسالة من الخليفة "عمر بن الخطاب" يدعوه فيها للانتظار قليلاً والرجوع وتأجيل الفتح إلى حين. لكن "ابن العاص" الذي كان مرابضاً على حدود رفح تحايل على الرسول القادم له، وقد وقر في صدره ألا يعود إلا وقد حرر مصر من سطوة الرومان المسيطرين عليها. وهكذا تحرك وتوغل داخل البلد حتى تمركز عند "بلبيس" عام 640م منتظراً المدد من "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه الذي لم يبخل عليه هذه المرة، وأرسل له 4 آلاف جندي على رأسهم واحد بألف رجل هو "الزبير بن العوام".
وعندما سيطر "عمرو بن العاص" وجيشه على مصر أمر ببناء مسجده هذا عام 21 هجرية، وهو المسجد الذي عرف أيضاً باسم المسجد "الجامع"، و"الجامع العتيق"، و"أبو الجوامع".. لاحقاً سيصبح هناك جامع آخر يحمل نفس الاسم في دمياط "جامع عمرو بن العاص" لم يبنه صاحب اسمه هذه المرة، لكنه بني على نفس طراز الجامع الأم فأطلق عليه نفس اسمه.
مسجد عمرو بن العاص من الخارج
متحركاً صوب خارج المسجد ألمح مجموعة من السياح يتجولون في جنباته يتأملون جمال معماره في انبهار وشغف، ويدققون في اتساعه ورحابته ومنمنماته ونوافذه المتعددة التي يطل منها تاريخ ممتد لسنوات طويلة.
لم يعد هناك سوى نصف ساعة على الإفطار. ولم أزر بعد معبد "بن عزرا" اليهودي الذي عرفت أنه المكان الوحيد في مجمع الأديان هذا الذي تحيط به حراسة مباشرة، ويجب أن يترك المرء اسمه قبل دخوله. هذا أمر منطقي طبعاً؛ لأن الإسرائيليين كرّهونا في كل ما هو يهودي، رغم أن كبيرهم في مصر كان يحضر حفلات تنصيب رؤسائنا في السابق.. حسنا يبدو أننا سنؤجل زيارة المعبد اليهودي هذه المرة. ها قد زرنا أماكن "حسن"، وأماكن "مرقص"، وعلى "كوهين" أن ينتظر بعض الحين!